و بعد أن التهمنا ذلك الإفطار اللذيذ ، أظن أني لم أخيب ظن أمي في الطبخ فقد أعجبها الطعام .. لاحظت تلك المرأة التي تأكل أمامي و قد حفر الزمن علاماته على وجهها الرقيق المتبسم رغم الشدائد .. لم يبقى لي سواها و بعدها الشيخ خالد . و بعدما علمت ما حدث ..
(( أسعد الله قلبك يا ولدي بارك الله في ذلك الشيخ النبيل .. لقد حظي أبوك بأصدقاء مخلصين أوفياء و قلوبهم رحيمة )) ، أدمعت عينيها التي كالبدر وسط سواد ليل مدلهم كأنها دموع من نجوم ، فجلبت لها منديل و مسحت عينيها .
احتضنتها و لأول مرة أضمها أنا بعد وقت طويل إلى صدري الذي تصدع من الحزن بفعل قساوة الحياة .. كانت سعادتي غامرة .
بدأت أنتظم مع الشيخ الذي لم أعد أخجل منه كما عهدت .. و كنت أتحدث إليه بكامل الأريحية ، و هو كان يعاملني كولد له .. عدت إلى دراستي لأجتهد و أكد أيضاً في عملي الجديد .. حفظ القرآن الكريم .
كنت قد أنهيت الصف الثالث الاعدادي بعد وقت مررت فيه بطرق ضبابية مجهولة و مفاجئات عسيرة قاسية .. في تلك الأيام كنت أصرف من معاش أبي في الطعام فقط .. و المرتب الذي كان يكنيه الشيخ خالد بجائزة ، كان أكثر من معاش أبي فقد كان شيخاً يعيش حالة مادية ممتازة .
افضل روايات رومانسية سعودية حزينه
قصص حزينة جدا لدرجة البكاء
(( أهلا يا شيخي .. تفضل )) قلت بوجه كالشمس سطوعاً ، و صوت أعلن له شوقي إليه .. و بعد تبادل رسميات الحديث .
(( لقد مر ومن طويل و قد أشرق وجهك يا فادي و أصبحت رجلاً يافعاً .. بقي القليل على الكلية المرموقة التي تريدها يا بني ، بقي القليل جداً .. )) قال بنبرة مشجعة تبعث النور في قلب حالك الظلام ..
ابتسمت إبتسامة طفل بريئ لم يعرف الحياة بعد ..
(( أعرف يا شيخي ، أود فقط لو أن تدعو لي من قلبك .. فأنا أجتهد كثيراً تلك الأيام و قد بقي القليل على امتحاناتي )) .. هزّ الشيخ رأسه بهمة و حزم ذائب في سعادة ، قمت و قبلت رأسه شاكرا كل أفضاله عليّ .
سمعت صوت السيارة تغادر .. و خرجت إلى النافذة ، فلفحت نسمة باردة وجهي و لثمته ، دخلت غرفتي .. و انهمك رأسي في حل مسائل الرياضيات المعقدة . و مر عليّ خمس ساعات لم أخرج فيها من بحر من الأرقام كان يُغرق وقتي .
(( الله أكبر الله أكبر .. الله أكبر الله أكبر )) .. كان أذان المغرب يخطف قلبي .. و رددته متأملاً تلك السماء التي كانت ونساً لي ، أدعو الله أن يعينني إلى الوصول إلى أهدافي ، و عدت بعد الصلاة .. أعتكف ذلك المختبر الملئ برفوف الكتب متراصة تنتظرني ..
ظل الحال على ما هو عليه من أوقات تملأها تلك الكتب ، و انهماكي في الدراسة .. لم أكن أتخيل أني سأصل إلى تلك السنة التي تمثل الوحش كاسر الأرواح بالنسبة للطلبة .. بل كنت في نهاياتها أيضاً .
أخذت شهيقاً عميقاً .. (( اسمع يا بني ، بقي قلة قليلة على إمتحاناتك حتى تخرج من عنق الزجاجة .. و أنا راضية كل الرضى عن مذاكرتك ، لقد فعلت ما يجدر بك فعله ، و الله مدبر الاحوال ولا ينسى تلك الأوقات التي قضيتها في سبيل العلم )) قالت أمي بنبرة تحفيزية محاولتاً إخفاء قلقها الذي كان ينتأ كالشرار من عينيها ، فأنا الشخص الوحيد الذي بقي لها في تلك الدنيا .. و أخي شادي يراسلنا من وقت لآخر .. و قد حقق حلمه في الخارج ، أما أنا فعلى أعتاب مصير مجهول .
كان الشيخ خالد يتصل بي من وقت لآخر ليطمئن علي .. و هل إذا كنت أحتاج أي شيء يدبره لأجلي .. كان يقول دوماً لي (( أنا واثق من النجاح حليفك يا فادي .. إنشاء الله ، تلك العيون التي سهرت في حب العلم لن يذهب تأرقها و تعبها هباءاً منثوراً )) ..
حتى جاء الموعد الذي يتربع على عرش عقول الطلاب .. كأنه خسوف جعل قمر حياتنا دامياً يخطف الأبصار .. النتيجة . أعطاني الشيخ حبوب شجاعة بكلامها المشع بالأمل .. كنت أراه أباً لي ، و دعوات أمي الذي ترسلها دموعها إلى السماء ..
(( يا بني إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا .. و لا تقلق يكفي أننا جميعاً راضون بمجهودك القوي يا فادي )) .. كان يقولها و ينظر إليّ بعين كلها ثقة و حنان دافئ كالأب .. و انتهت أخيراً الإمتحانات .. كان الطلبة خائفون خوف من كانوا على غرار حرب مدمرة كاسحة ..
و كان يوم النتيجة المرتقب .. الأرق و الخوف يجتاح قلبي .. و انتظرت فرمان ، إما يكتب لي سعادة غامرة أو شقاءً لم أذق مثله . كانت السماء القرمزية تلبس معطفاً من غيوم رمادية تخبئ في الأفق مستقبلاً .. أتمنى أن يكون منيراً
تعليقات
إرسال تعليق